فصل: تفسير الآيات (16- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (14- 19):

{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)}
وقولُه تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال} أي تضطربُ وتتزلزلُ، ظرفٌ للاستقرار الذي تعلقَ به لدينا، وقيلَ: متعلقٌ بمضمر هو صفةٌ لعذاباً أي عذاباً واقعاً يومَ ترجفُ {وَكَانَتِ الجبال} مع صلابتها وارتفاعها {كَثِيباً} رملاً مجتمعاً من كثب الشيء إذا جَمَعَهُ كأنَّه فعِيلٌ بمعنى مفعولٍ. {مَّهِيلاً} منثوراً من هِيلَ هَيلاً إذا نُثرَ وأُسيلَ.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ} يا أهلَ مكةَ {رَسُولاً شاهدا عَلَيْكُمْ} يشهدُ يومَ القيامةِ بما صدرَ عنكُم من الكفرِ والعصيانِ {كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} هو مُوسى عليه السَّلامُ وعدمُ تعيينهِ لعدمِ دخلِه في التشبيهِ {فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} الذي أرسلناهُ إليهِ ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنَّها صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه كما يعربُ عنه قولُه تعالى: {شاهدا عَلَيْكُمْ} إرسالاً كائناً كما أرسلنا إلى فرعونَ رسولاً فعصاه وقولُه تعالى: {فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً} خارجٌ من التشبيه جيءَ به للتنبيه على أنَّه سيحيقُ بهؤلاءِ ما حاقَ بأولئكَ لا محالةَ والوبيلُ الثقيلُ الغليظُ من قولِهم كلأٌ وبيلٌ أي وخيمٌ لا يستمرأُ لثقلهِ، والوبيلُ العَصا الضخمةُ. {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ} أي كيفَ تقونَ أنفسكمُ {إِن كَفَرْتُمْ} أي بِقيتُم على الكفرِ {يَوْماً} أي عذابَ يومٍ {يَجْعَلُ الولدان} من شدةِ هولِه وفظاعةِ ما فيهِ من الدَّواهي {شِيباً} شيوخاً جمعُ أشيبَ إما حقيقةً أو تمثيلاً وأصلهُ أنَّ الهمومَ والأحزانَ إذا تفاقمتْ على المرء ضعفتْ قُواه وأسرعَ فيه الشيبُ وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ ذلك وصفاً لليومِ بالطولِ وليس بذاكَ. {السَّمَاء مُنفَطِرٌ} أي منشقٌّ، وقرئ: {مُتَفَطِّر} أي متشققٌ والتذكيرُ لإجرائه على موصوفٍ مذكرٍ أي شيءٌ منفطرٌ عبَّر عنها بذلكَ للتنبه على أنَّه تبدلتْ حقيقتُها وزالَ عنها اسمها ورسمها ولم يبقَ منها إلا ما يُعبرُ عنه بالشيءِ، وقيلَ: لتأويلِ السماءِ بالسقفِ وقيلَ: هو من باب النسبِ أي ذاتُ انفطارٍ. والباءُ في قولِه تعالى: {بِهِ} مثلُها في فطرتُ العودَ بالقَدُومِ {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} الضميرُ لله عزَّ وجلَّ، والمصدرُ مضافٌ إلى فاعله، أو لليوم وهو مضافٌ إلى مفعولهِ. {إِنَّ هذه} إشارةٌ إلى الآيات المنطويةِ على القوارع المذكورةِ {تَذْكِرَةٌ} موعظةٌ {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} بالتقرب إليه بالإيمان والطاعةِ فإنَّه المنهاجُ الموصلُ إلى مرضاتِه.

.تفسير الآية رقم (20):

{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل} أي أقلَّ منهما استعير له الأدنى لما أنَّ المسافةَ بين الشيئينِ إذا دنتْ قلَّ ما بينهُمَامن الأحيازِ {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} بالنصب عطفاً على أدْنَى. وقُرئا بالجرِّ عطفاً على ثُلثي الليلِ. {وَطَائِفَةٌ مّنَ الذين مَعَكَ} أيْ ويقومُ معكَ طائفةٌ من أصحابكَ {والله يُقَدّرُ اليل والنهار} وحدهُ لا يقدرُ على تقديرهما أحدٌ أصلاً فإنَّ تقديم الاسمِ الجليلِ مبتدأٌ وبناءَ يقدرُ عليهِ موجبٌ للاختصاصِ قطعاً كما يُعربُ عنه قولُه تعالَى: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أي علمَ أنَّ الشأنَ لنْ يقدرُوا على تقدير الأوقاتِ ولن تستطيعوا ضبطَ الساعاتِ أبداً {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} بالترخيص في تركِ القيامِ المقدورِ ورفعِ التبعةِ عنكُم في تركه.
{فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} فصلُّوا لما تيسرَ لكُم من صلاة الليلِ عبرَ عن الصلاة بالقراءة كما عبَّر عنها بسائر أركانِها. قيلَ: كانَ التهجدُ واجباً على التخيير المذكورِ فعسُرَ عليهم القيامُ به فنُسخَ به ثم نُسخَ هذا بالصلوات الخمسِ وقيلَ: هي قراءة القُرآنِ بعينها قالُوا مَنْ قَرأَ مائةَ آيةٍ من القرآنِ في ليلةٍ لم يحاجَّهُ وقيلَ: «من قرأ مائةَ آيةٍ كُتبَ من القانتينَ» وقيلَ: خمسينَ آية: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} استئنافٌ مبينٌ لحكمةٍ أخرى داعيةٍ إلى الترخيصِ والتخفيفِ.
{وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض} يسافرونَ فيها للتجارةِ {يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} وهو الربحُ وقد عُمِّمَ ابتغاءَ الفضلِ لتحصيل العلمِ {وَءَاخَرُونَ يقاتلون فِي سَبِيلِ الله} وإذا كانَ الأمرُ كما ذُكِرَ وتعاضدت الدواعي إلى الترخيص {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} من غيرَ تحملِ المشاقِّ {وَأَقِيمُواْ الصلاة} أي المفروضةَ {وَءَاتُواْ الزكواة} الواجبةَ وقيلَ: هي زكاةُ الفطرِ إذْ لم يكن بمكةَ زكاةٌ ومن فسرهَا بالزكاةِ المفروضةِ جعَلَ آخرَ السورةِ مدنياً {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} أُريدَ به الإنفاقاتُ في سبيلِ الخيراتِ أو أداءِ الزكاةِ على أحسنِ الوجوهِ وأنفعها للفقراءِ {وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ} كانَ مما ذُكَر ومَا لم يُذكرْ {تَجِدُوهُ عِندَ الله خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} منَ الذي تؤخرونَه إلى الوصيةِ عند الموتِ وخيراً ثاني مفعولَيْ تجدُوا وهو تأكيدٌ أو فصلٌ وإنْ لم يقعْ بينَ معرفتينِ فإن أفعلَ من في حُكمِ المعرفةِ ولذلكَ يمتنعُ من حرفِ التعريفِ وقرئ: {هو خيرٌ} على الابتداءِ والخبرِ. {واستغفروا الله} في كافة أحوالِكم فإنَّ الإنسانَ قلَّما يخلو من تفريط {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرأ سورةَ المزملِ دفعَ الله عنه العُسرَ في الدُّنيا والآخرةِ».

.سورة المدثر:

.تفسير الآيات (1- 4):

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}
{ياأيها المدثر} أي المتدثرُ هو لابسُ الدثارِ وهُوَ مَا يُلبسُ فوقَ الشِّعارِ الَّذي يلي الجسدَ قيلَ: هيَ أولُ سورةٍ نزلتْ. رُويَ عنْ جابرٍ رضيَ الله عنْهُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: «كُنت عَلى جبلِ حراءٍ فنوديتُ يا محمدُ إنَّكَ رسولُ الله فنظرتُ عنْ يميني وَيسارِي فلمْ أرَ شيئاً فنظرتُ فوقِي فإذَا بهِ قاعدٌ عَلَى عرشٍ بينَ السماءِ والأرضِ يعنيَ المَلكَ الَّذي ناداهُ فرعبتُ ورجعتُ إلى خديجَةَ فقلتُ: دثرونِي فنزلَ جبريلُ وقال: {ياأيها المدثر}» عَنِ الزهري «أنَّ أولَ ما نزلَ سورةُ اقرأْ إلى قولهِ تعالى: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} فحزنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجعلَ يعلو شواهقَ الجبالِ فأتاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ وقالَ: إنكَ نبيُّ الله فرجِعَ إلى خديجةَ فقالَ: دثرونِي وصُبُّوا عليَّ ماءً بارداً فنزلَ جبريلُ فقالَ: {ياأيها المدثر}» وقيلَ: سمعَ منْ قريشٍ ما كرهَهُ فاغتمَّ فتغطّى بثوبِه متفكراً كَمَا يفعلُ المغمومُ فأُمِرَ أنْ لا يدعَ إنذارَهم وإنْ أسمعُوه وآذوه. وقيلَ: كانَ نائماً متدثراً. وقيلَ: المرادُ المتدثرُ بلباسِ النبوةِ والمعارفِ الإلهيةِ. وقرئ: {المُدَثَّرُ} علَى صيغةِ اسمِ المفعولِ منْ دَثَرَهُ أي الَّذي دثرَ هذا الأمرَ العظيمَ وعصبَ به وفي حرفِ أبي المنذرِ يا أيها المتدثرُ عَلى الأصْلِ {قُمِ} أي من مضجعكَ أوْ قُمْ قيامَ عَزْمٍ وَتصميمٍ {فَأَنذِرْ} أي افعلِ الإنذارَ وَأَحْدِثْهُ وقيلَ: أنذرْ قومَكَ كقولِه تعالَى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين} أو جميعَ النَّاسِ حسبَمَا ينبىءُ عَنْهُ قولُه تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} {وَرَبَّكَ فَكَبّرْ} واختصَّ ربَّك بالتكبيرِ وهو وَصْفُهُ تعالى بالكبرياءِ اعتقاداً وقولاً ويُروى أنَّه لمَّا قالَ رسولُ الله: «الله أكبرُ» فكبرتْ خديجةُ وفرحتُ وأيقنتْ أنَّه الوحيُ وقدْ يحملُ على تكبيرِ الصَّلاةِ والفاءُ لمعنى الشرطِ كأنَّه قيلَ: ما كان أيْ أيُّ شيءٍ حدث فلا تدعُ تكبيرَهُ أوْ للدلالةِ عَلى أنَّ المقصودَ الأولى من الأمرِ بالقيامِ أنْ يكبرَ رَبَّه وينزهَهُ منَ الشركِ فإنَّ أولَ ما يجبُ معرفةُ الصانعِ جلَّ جلالُه ثم تنزيهُه عَمَّا لا يليقُ بجنابهِ.
{وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} مما ليسَ بطاهرٍ فإنَّه واجبٌ في الصَّلاةِ وأولى وأحبُّ في غيرِها وذلكَ بصيانتها وحفظها عن النجاساتِ وغسلِها بعد تلطخِها وبتقصيرها أيضاً فإنَّ طولَها يؤدي إلى جرِّ الذيولِ على القاذوراتِ وهُوَ أولُ ما أمَرَ بهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منْ رفضِ العاداتِ المذمومةِ وقيلَ: هُو أمرٌ بتطهيرِ النفسِ مما يستقذرُ منَ الأفعالِ ويُستهجنُ منَ الأحوالِ يقالُ: فلانُ طاهرُ الذيلِ والأردانِ إذا وصفُوه بالنقاءِ من المعايبِ ومدانسِ الأخلاقَ.

.تفسير الآيات (5- 10):

{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)}
{والرجز فاهجر} أي واهجُر العذابَ بالثباتِ على هَجْرِ ما يُؤدي إليه من المآثمِ وقرئ بكسرِ الراءِ وهُمَا لُغتانِ كالذُّكرِ والذِّكرِ {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} ولا تُعطِ مُستكثراً أي رائياً لِمَا تعطيهِ كثيراً أو طالباً للكثيرِ على أنَّه نهيٌ عنْ الاستغزارِ وهُوَ أنْ يهبَ شيئاً وهو يطمعُ أنْ يتعوضَ منَ الموهوبِ لَهُ أكثرَ ممَّا أعطاهُ وهُو جائزٌ ومنْهُ الحديثُ: «المستغزرُ يثابُ من هبتِه» فالنهيُ إمَّا للتحريمِ وهو خاصٌّ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأنَّ الله تعالى اختارَ له أشرفَ الأخلاقِ وأحسنَ الآدابِ أو للتنزيهِ للكُلِّ تستكثرْ بالسكونِ اعتباراً بحالِ الوقفِ أوْ إبدالاً منْ تمنن كأنَّه قيلَ: ولا تمنُنْ ولا تستكثرْ على أنَّه منَ المَنِّ الَّذي في قولِه تعالى منَّا ولاَ أذَىَ منْ يمنَّ بِمَا يُعطي يستكثرُه ويعيدُ بِه وقرئ بالنصبِ بإضمارِ أنْ معَ إبقاءِ عملِها كقولِ منْ قالَ:
أَلاَ أيُهذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى

وقدْ قرئ بإثباتِها ويجوزُ في قراءةِ الرفعِ أنْ يحذفَ أنْ ويبطلَ عملُها كَمَا يُروى أحضرُ الوَغَى بالرفعِ {وَلِرَبّكَ} أي لوجههِ تعالى أو لأمرِه {فاصبر} فاسعملَ الصبرَ وقيلَ: على أذيةِ المشركينَ وقيلَ: عَلى أداءِ الفرائضِ.
{فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور} أي نفخَ في الصُّورِ وهو فاعل من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سببُ الصَّوتِ والفاءُ للسببيةِ كأنَّه قيلَ: اصبرْ عَلَى أذاهُم فبينَ أيديهِم يومٌ هائلٌ يلقونَ فيهِ عاقيةَ أذاهُم وتلقَى عاقبةَ صبرِك عليهِ وَالعَاملُ فِي إذَا ما دَلَّ عليهِ قولُه تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الكافرين} فإنَّ معناهُ عسُرَ الأمرُ عَلَى الكافرينَ وذلكَ إشارةٌ إلى وقتِ النقرِ وما فيهِ منْ مَعْنى البعدِ مع قُربِ العَهدِ بالمشارِ إليهِ للإيذانِ ببعدِ منزلتِه في الهولِ والفظاعةِ ومحلُه الرفعُ عَلى الابتداءِ ويومئذٍ بدلٌ منْهُ مبنيٌّ عَلى الفتحِ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ والخبرُ يومٌ عسيرٌ وقيلَ: يومئذٍ ظرفٌ للخبرِ إذِ التقديرُ وذلك وقتُ وقوعِ يومٍ عسيرٍ وَعَلَى متعلقةٌ بعسيرٌ وقيلَ: بمحذوفٍ هو صفةٌ لعسيرٌ أوْ حالٌ من المستكنِّ فيهِ وقولُه تعالى: {غَيْرُ يَسِيرٍ} تأكيدٌ لعُسرِهِ عليهمْ مشعرٌ بيُسرهِ على المؤمنينَ واختلفَ في أنَّ المرادَ بِه يومُ النفخةِ الأولى أو الثانيةِ، والحقُّ أنَّها الثانيةُ، إذْ هيَ التي يختصُّ عسرُها بالكافرينَ وأما النفخةُ الأُولى فحكمُها الذي هو الإصعاقُ يعمُّ البرَّ والفاجرَ عَلى أنَّها مختصةٌ بمَنْ كانَ حياً عندَ وقوعِها وقد جاءَ في الأخبار أنَّ في الصورِ ثقباً بعددِ الأرواحِ كلِّها وأنَّها تجمعُ في تلكَ الثقوبِ في النفخةِ الثانيةِ فتخرجُ عندَ النفخِ منْ كُلِّ ثقبةٍ روحٌ إلى الجسدِ الِّذي نزعت مِنْهُ فيعودُ الجسدُ حياً بإذنِ الله تعالَى.

.تفسير الآيات (11- 15):

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)}
{ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} حَالٌ إمَّا منَ الياءِ أيْ ذرني وَحديِ معَهُ فَإنِّي أكفيكَهُ في الانتقامِ منْهُ أو منَ التاءِ أي خلقتُهُ وَحْدِي لَمْ يُشركني فِي خلقِه أحدٌ أو منَ العائدِ المحذوفِ أيْ وَمَنْ خلقتُه وحيداً فريداً لا مالَ لَهُ وَلاَ ولدٌ، وقيلَ: نزلت في الوليدِ بنِ المغيرةِ المخزومي وكانَ يلقبُ في قومِه الوحيدَ فهو تهكمٌ به وبلقبِه وصرفٌ لهُ عنْ الغرضِ الذي يؤمونَهُ من مدحِه إلى جهةِ ذمهِ بكونهِ وحيداً من المَالِ والولدِ أو وحيداً من أبيهِ لأنَّه كانَ زنيماً كما مَرَّ أوْ وَحيداً في الشَّرارةِ {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً} مبسوطاً كثيراً أو ممداً بالنماءِ من مَدَّ النهرٌ ومدَّهُ نهرٌ آخرُ، قيلَ: كانَ لَهُ الضرعُ والزرعُ والتجارةُ. وعنِ ابنِ عبَّاس رضيَ الله عنْهما هُوَ ما كانَ لَه بينَ مكةَ والطائفِ من صنوفِ الأموالِ، وقيلَ: كانَ لَهُ بالطائفِ بستانٌ لا ينقطعُ ثمارُهُ صيفاً وشتاءً. وقالَ ابن عباسٍ ومجاهدٌ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ كانَ لَهُ ألفُ دينارٍ وقالَ قَتَادةُ: ستةُ آلافِ دينار، وقال سفيان الثوري: أربعة آلاف دينار، وقال الثوريُّ أيضاً: ألف ألف دينار.
{وَبَنِينَ شُهُوداً} حضوراً معَهُ بمكةَ يتمتعُ بمشاهدتِهم لا يفارقونَهُ للتصرف في عملٍ أو تجارةٍ لكونِهم مكفيينَ لوفورِ نعمِهم وكثرةِ خدمِهم أو حضوراً فِي الأنديةِ والمحاقلِ لوجاهتِهم واعتبارِهم قيلَ: كانَ له عشرةُ بنينَ وقيلَ: ثلاثةَ عشرَ وقيلَ: سبعةٌ كلُّهم رجالٌ الوليدُ بن الوليد وخالدٌ وعمارةٌ وهشامٌ والعاصُ والقيسُ وعبدُ شمسٍ أسلَم منهْم ثلاثةٌ خالدٌ وهشامٌ وعمارةُ {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} وبسطتُ لهُ الرياسةَ والجاهَ العريضُ حَتَّى لقبَ ريحانةَ قريشٍ {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} عَلى ما أوتيهِ وهو استبعادٌ واستنكارٌ لطمِعه وحرصِه إما لأنهُ لا مزيدَ عَلى ما أُوتيَ سعة وكثرةً أو لأنَّه منافٍ لما هُوَ عليهِ منْ كُفرانِ النعمِ ومعاندةِ المنعمِ وقيلَ: إنَّه كانَ يقول إن كان محمدٌ صادقاً فما خُلقتْ الجنةُ إِلاَّ لِي.

.تفسير الآيات (16- 19):

{كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)}
{كَلاَّ} ردعٌ وزجرٌ لَهُ عنْ طمعه الفارغِ وقطعٌ لرجائه الخائبِ وقولُه تعالَى: {إِنَّهُ كان لأياتنا عَنِيداً} تعليلٌ لذلكَ على وَجْه الاستئنافِ التحقيقيِّ فإنَّ معاندةَ آياتِ المنعمِ معَ وضوحِها وكفرانَ نعمتِه معَ سيوغِها مما يوجبُ حرمانَهُ بالكليةِ وإنما أوتَي ما أوتَي استدارجاً قيلَ: ما زالَ بعدَ نزولِ هذهِ الآيةِ في نقصانٍ منْ مالِه حتَّى هلكَ {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} سأغشيهِ بدلَ ما يطمُعه منَ الزيادةِ أو الجنةِ عقبةً شاقةً المصعدِ وهو مثلٌ لما يَلْقى منَ العذابِ الصعبِ الذَّي لا يطاقُ وعنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «يكلفُ أنْ يصعدَ عقبةً في النارِ كلمَا وضعَ يَدهُ عليَها ذابتْ فإذَا رفعَها عادتْ وإذَا وضعَ رجَلُه ذابتْ فإذَا رفعَها عادتْ» وعنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «الصَّعودُ جبلٌ منْ نارٍ يصعدُ فيهِ سبعينَ خربفاً ثمَّ يهوِي فيهِ كذلكَ أبداً» {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} تعليلٌ للوعيدِ واستحقاقِه لَهُ أو بيانٌ لعناده لآياته تعالَى أيْ فكرَّ ماذَا يقولُ في شأنِ القرآنِ وقدرَ فِي نفسِه ما يقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} تعجيبٌ منْ تقديرِه وإصابتِه فيهِ الغرضَ الذي كانَ ينتحيهِ قريشٌ قاتلَهم الله أو ثناءٌ عليهِ بطريقِ الاستهزاءِ أو حكايةٌ لما كررُوه من قولِهم قتلَ كيفَ قدرَ تهكماً بِهم وبإعجابِهم بتقديرِه واستعظامِهم لقولِه معَنْى قولِهم قتلَهُ الله ما أشجَعهُ أو أخزاهُ الله ما أشعرَهُ الإشعارُ بأنَّه قد بلغَ منَ الشجاعةِ والشعرِ مبلغاً حقيقياً بأنْ يدعَو عليهِ حاسدُهُ بذلكَ. رُويَ أنَّ الوليدَ قالَ لبني مخزومٍ والله لقد سمعتُ من محمدٍ آنِفاً كلاماً ما هُو منْ كلامِ الإنسِ ولا منْ كلامِ الجنِّ إنَّ لَهُ لحلاوةً وإنَّ عليهِ لطلاوةً وإنَّ أعلاهُ لمثمرٌ وإنَّ أسفلَهُ لمغدِقٌ وإنَّه يعلو ولا يُعلى فقالتْ قريشٌ صبأَ والله الوليدُ والله لتصبأنَّ قريشٌ كُلُّهم فقالَ ابْنُ أخيهِ أبوُ جهلٍ أنَا أكفيكمُوهُ فقعَد عندَهُ حزيناً وكلَّمهُ بما أحماهُ فقامَ فأتاهُم ققالَ تزعمونَ أنَّ محمداً مجنونٌ فهل رأيتمُوه يخنقُ وتقولونَ إنه كاهنٌ فَهلْ رأيتمُوه يتكهنُ وتزعمونَ أنه شاعرٌ فهل رأيتمُوه يتعاطَى شِعراً قطُّ وتزعمونَ أنه كذابٌ فَهَلْ جربتُم عليهِ شيئاً من الكذبِ فقالُوا في كُلِّ ذلكَ اللهمَّ لاَ ثمَّ قالُوا فَما هُو ففكَّر فقالَ مَا هُو إلا ساحرٌ أما رأيتمُوه يفرقُ بينَ الرجلِ وأهلِه وولدِه ومواليهِ وما الذي يقولُه إلا سحرٌ يأثرُهُ عنْ أهلِ بابلَ فارتجَّ النادِي فرحاً وتفرقُوا معجبينَ بقولِه متعجبينَ منْهُ.